الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
والظاهر أن هذا التحريم الذي دلت عليه الآية لم يثبت في جميع المذكورات في سائر الأديان، نعم ذكروا أن حرمة الأمهات، والبنات كانت ثابتة حتى في زمان آدم عليه السلام ولم يثبت حل نكاحهن في شيء من الأديان، وقيل: إن زرادشت نبي المجوس بزعمهم قال بحله، وأكثر المسلمين اتفقوا على أنه كان كذابًا، وعدم إيذاء الصفر المذاب له لأدوية كان يلطخ بها جسده وقد شاهدنا من يحمل النار بيده بعد لطخها بأدوية مخصوصة ولا تؤذيه وحينئذ لا يصلح أن يكون معجزة.وأما حل نكاح الأخوات فقد قيل: إنه كان مباحًا في زمان آدم عليه السلام للضرورة وكانت حواء عليها السلام تلد في كل بطن ذكرًا وأنثى فيأخذ ذكر البطن الثانية أنثى البطن الأولى، وبعض المسلمين ينكر ذلك ويقول: إنه بعث الحور من الجنة حتى تزوج بهن أبناء آدم عليه السلام، ويرد عليه أن هذا النسل حينئذ لا يكون محض أولاد آدم وذلك باطل بالإجماع.{وأمهاتكم التي أَرْضَعْنَكُمْ وأخواتكم مّنَ} عطف على سابقه والرضاعة بفتح الراء مصدر رضع كسمع وضرب، ومثله الرضاعة بالكسر، والرضع بسكون الضاء وفتحها، والرضاع كالسحاب، والرضع كالكتف، وحكوا رضع ككرم، ورضاعًا كقتال، وقد تبدل ضاده تاءًا، ورضاعًا كسؤال لكن المضموم كالمراضعة تقتضي الشركة، ويقال: أرضعت المرأة فهي مرضع إذا كان لها ولد ترضعه فإن وصفتها بإرضاع الولد قلت: مرضعة، ومعناها لغة مص الثدي، وشرعًا مص الرضيع من ثدي الآدمية في وقت مخصوص، وأرادوا بذلك وصول اللبن من ثدي المرأة إلى جوف الصغير من فمه أو أنفه في المدة الآتية سواء وجد مص أو لم يوجد، وإنما ذكروا المص لأنه سبب للوصول فأطلقوا السبب وأرادوا المسبب، وقد صرح في الخانية أنه لا فرق بين المص والسعوط ونحوه، وقيدوا بالآدمية ليخرج الرجل والبهيمة، وتفرد الإمام البخاري وهو سبب فتنته في قول فذهب فيما إذا ارتضع صبي وصبية من ثدي شاة إلى وقوع الحرمة بينهما، وأطلقت لتشمل البكر والثيب الحية والميتة، وقيدنا بالفم والأنف ليخرج ما إذا وصل بالإقطار في الأذن والإحليل والجائفة والآمة بالحقنة في ظاهر الرواية، وخرج بالوصول ما لو أدخلت المرأة حلمة ثديها في فم رضيع ولا تدري أدخل اللبن في حلقه أم لا، لا يحرم النكاح لأن في المانع شكًا.وقد نزل الله سبحانه الرضاعة منزلة النسب حتى سمى المرضعة أمًا للرضيع، والمراضعة أختًا، وكذلك زوج المرضعة أبوه وأبواه جداه وأخته عمته، وكل ولد ولد له من غير المرضعة قبل الرضاع وبعده فهم إخوته وأخواته لأبيه، وأم المرضعة جدته، وأختها خالته، وكل ولدها من هذا الزوج فهم إخوته وأخواته لأبيه وأمه، ومن ولد لها من غيره فهم إخوته وأخواته لأمه، ومن هنا قال صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه البخاري ومسلم من حديث عائشة وابن عباس رضي الله تعالى عنهم: «يحرم من الرضاع ما يحرم بالنسب».وذهب كثير من المحققين كمولانا شيخ الإسلام وغيره إلى أن الحديث جار على عمومه وأما أم أخيه لأب وأخت ابنه لأم وأم أم ابنه وأم عمه وأم خاله لأب فليست حرمتهن من جهة النسب حتى يحل بعمومه ضرورة حلهن في صورة الرضاع بل من جهة المصاهرة، ألا يرى أن الأولى: موطوأة أبيه.والثانية: بنت موطوأته.والثالثة: أم موطوأته.والرابعة: موطوأة جده الصحيح.والخامسة: موطوأة جده الفاسد، ووقع في عبارة بعضهم استثناء صور بعد سوق الحديث، وأنهى في [البحر] المسائل المستثنيات إلى إحدى وثمانين مسألة، وأطال الكلام في هذا المقام، وأتى بالعجب العجاب.وظاهر الآية أنه لا فرق بين قليل الرضاع وهو ما يعلم وصوله إلى الجوف وكثيره في التحريم، وأما خبر مسلم: «لا تحرم المصة والمصتان» وما دل على التقدير فمنسوخ صرح بنسخه ابن عباس رضي الله تعالى عنهما حين قيل له: إن الناس يقولون: إن الرضعة لا تحرم فقال: كان ذلك ثم نسخ.وعن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أنه قال: آل أمر الرضاع إلى أن قليله وكثيره يحرم، وروي عن ابن عمر أن القليل يحرم، وعنه أنه قيل له: إن الزبير يقول: لا بأس بالرضعة والرضعتين فقال: قضاء الله تعالى خير من قضاء ابن الزبير، وتلا الآية، وقال الشافعي عليه الرحمة على ما نقله أصحابنا عنه لا يثبت التحريم إلا بخمس رضعات مشبعات في خمسة أوقات متفاصلة عرفًا، وعن أحمد روايتان كقولنا وكقوله، واستدل على ذلك بما أخرجه ابن حبان في [صحيحه] من حديث الزبير أنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: «لا تحرم المصة والمصتان ولا الإملاجة والإملاجتان»، ووجه الاستدلال بذلك أن المصة داخلة في المصتين والإملاجة في الإملاجتين، فحاصله لا تحرم المصتان ولا الإملاجتان فنفى التحريم على أربع فلزم أن يثبت بخمس.واعترضه ابن الهمام بأنه ليس بشيء، أما أولًا: فلأن مذهب الشافعي ليس التحريم بخمس مصات بل بخمس مشبعات في أوقات، وأما ثانيًا: فلأن المصة غير الإملاجة فإن المصة فعل الرضيع والإملاجة الإرضاعة فعل المرضعة، فحاصل المعنى أنه صلى الله عليه وسلم نفى كون الفعلين محرمين منه ومنها ثم حقق أن ما في هذه الرواية لا ينبغي أن يكون حديثًا واحدًا بأن الإملاج ليس حقيقة المحرم بل لازمه من الارتضاع فنفي تحريم الإملاج نفي تحريم لازمه فليس الحاصل من لا تحرم الإملاجتان إلا لا يحرم لازمهما أعني المصتين فلو جمعا في حديث واحد كان الحاصل لا تحرم المصتان «ولا المصتان» فلزم أن لا يصح أن يراد إلا المصتان لا الأربع، وعلى هذا يجب كون الراوي وهو الزبير رضي الله تعالى عنه أراد أن يجمع بين ألفاظه صلى الله عليه وسلم التي سمعها منه في وقتين كأنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تحرم المصة والمصتان» وقال أيضًا: «لا تحرم الإملاجة والإملاجتان».وقيل في وجه الاستدلال طريق آخر، وهو أن الحديث ناف لما ذهب إليه الإمام الأعظم رضي الله تعالى عنه فيثبت به مذهب الإمام الشافعي رحمه الله تعالى لعدم القائل بالفصل، واعترض بأن القائل بالفصل أبو ثور وابن المنذر وداود وأبو عبيد، وهؤلاء أئمة الحديث قالوا: المحرم ثلاث رضعات، والقول بعدم اعتبار قولهم في حيز المنع لقوة وجهه بالنسبة إلى وجه قول الشافعي.واستدل بعض أصحابه على هذا المطلب بما رواه مسلم عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: كان فيما نزل من القرآن عشر رضعات معلومات يحرمن ثم نسخن بخمس رضعات معلومات يحرمن فتوفي النبي صلى الله عليه وسلم وهن فيما يقرأ من القرآن.وفي رواية أنه كان في صحيفة تحت سريري فما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم تشاغلنا بموته فدخلت دواجن فأكلتها.وبما روي عن عائشة أيضًا قالت: جاءت سهلة بنت سهيل امرأة أبي حذيفة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله إني أرى في وجه أبي حذيفة من دخول سالم وهو حليفه فقال صلى الله عليه وسلم: «أرضعي سالمًا خمسًا تحرمي بها عليه» والجواب أن جميع ذلك منسوخ كما صرح بذلك ابن عباس فيما مر.ويدل على نسخ ما في خبر عائشة الأول أنه لو لم يكن منسوخًا لزم ضياع بعض القرآن الذي لم ينسخ والله تعالى قد تكفل بحفظه، وما في الرواية لا ينافي النسخ لجواز أن يقال: إنها رضي الله تعالى عنها أرادت أنه كان مكتوبًا ولم يغسل بعد للقرب حتى دخلت الدواجن فأكلته، والقول بأن ما ذكر إنما يلزم منه نسخ التلاوة فيجوز أن تكون التلاوة منسوخة مع بقاء الحكم كالشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ليس بشيء لأن ادعاء بقاء حكم الدال بعد نسخه يحتاج إلى دليل وإلا فالأصل أن نسخ الدال يرفع حكمه، وما نظر به لولا ما علم بالسنة، والإجماع لم يثبت به، ثم الذي نجزم به في حديث سهلة أنه صلى الله عليه وسلم لم يرد أن يشبع سالمًا خمس شبعات في خمس أوقات متفاصلات جائعًا لأن الرجل لا يشبعه من اللبن رطل ولا رطلان فأين تجد الآدمية في ثديها قدر ما يشبعه هذا محال عادة، فالظاهر أن معدود (خمس فيه إن صح أنها من الخبر) المصات ثم كيف جاز أن يباشر عورتها بشفتيه فلعل المراد أن تحلب له شيئًا مقداره مقدار خمس مصات فيشربه كما قال القاضي وإلا فهو مشكل، (وقد يقال): هو منسوخ من وجه آخر لأنه يدل على أن الرضاع في الكبر يوجب التحريم لأن سالمًا كان إذ ذاك رجلًا وهذا مما لم يقل به أحد من الأئمة الأربعة فإن مدة الرضاع التي يتعلق به التحريم ثلاثون شهرًا عند الإمام الأعظم، وسنتان عند صاحبيه ومستندهما قوي جدًا، وإلى ذلك ذهب الأئمة الثلاثة، وعن مالك: سنتان وشهر، وفي رواية أخرى شهران، وفي أخرى سنتان وأيام، وفي أخرى ما دام محتاجًا إلى اللبن غير مستغن عنه، وقال: زفر ثلاث سنين، نعم قال بعضهم: خمس عشرة سنة، وقال آخرون: أربعون سنة، وقال داود: الإرضاع في الكبر محرم أيضًا، ولا حدّ للمدة وهو مروى عن عائشة رضي الله تعالى عنها وكانت إذا أرادت أن يدخل عليها أحد من الرجال أمرت أختها أم كلثوم أو بعض بنات أختها أن ترضعه، وروى مسلم عن أم سلمة وسائر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أنهن خالفن عائشة في هذا، وعمدة من رأى رأيها في هذا الباب خبر سهلة مع أن الآثار الصحيحة على خلافه، فقد صح مرفوعًا وموقوفًا: «لا رضاع إلا ما كان في حولين» وفي الموطأ.وسنن أبي داود عن يحيى بن سعيد أن رجلًا سأل أبا موسى الأشعري فقال: إني مصصت من امرأتي ثديها لبنًا فذهب في بطني فقال: أبو موسى لا أراها إلا قد حرمت عليك فقال ابن مسعود انظر ما تفتي به الرجل فقال أبو موسى: فما تقول أنت؟ فقال ابن مسعود: لا رضاع إلا في حولين، فقال أبو موسى: لا تسألوني عن شيء ما دام هذا الحبر بين أظهركم، وفيه عن ابن عمر جاء رجل إلى عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه فقال: كانت لي وليدة فكنت أصيبها فعمدت امرأتي إليها فأرضعتها فدخلت عليها فقالت: دونك قد والله أرضعتها قال عمر: أرجعها وأت جاريتك فإنما الرضاعة رضاعة الصغر، وروى الترمذي وقال حديث صحيح من حديث أم سلمة أنه قال صلى الله عليه وسلم: «لا يحرم من الرضاع إلا فتق الأمعاء في الثدي وكان قبل الفطام» وفي سنن أبي داود من حديث ابن مسعود يرفعه: «لا يحرم من الرضاع إلا ما أنبت اللحم وأنشز العظم» حتى إن عائشة نفسها رضي الله تعالى عنها روت ما يخالف عملها، ففي [الصحيحين] عنها أنها قالت: خل عليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وعندي رجل فقال: «يا عائشة من هذا؟» فقلت: أخي من الرضاعة فقال: «يا عائشة أنظرن من إخوانكم إنما الرضاعة من المجاعة» واعتبر مرويها دون رأيها لظهور غفلتها فيه وعدم وقوع اجتهادها على المحز، ولهذا قيل: يشبه أنها رجعت كما رجع أبو موسى لما تحقق عندها النسخ؛ وحمل كثير من العلماء حديث سهلة على أنه مختص بها وبسالم، وجعلوا أيضًا العفو عن مباشرة العورة من الخواص.هذا ومن غرائب ما وقفت عليه مما يتعلق بهذه الآية عبارة من مقامة للعلامة السيوطي رحمه الله تعالى سماها الدوران الفلكي على ابن الكركي وفيها يخاطب الفاضل المذكور بما نصه: ماذا صنعت بالسؤال المهم الذي دار في البلد ولم يجب عنه أحد، وهو الفرق بين قوله تعالى: {الأخت وأمهاتكم الْلاَّتِى أَرْضَعْنَكُمْ} وبين ما لو قيل: واللاتي أرضعنكم أمهاتكم حيث رتب على الأول خمس رضعات واردة، ولو قيل: الثاني لاكتفى برضعة واحدة، ولقد ورد عليّ وسيق إلي فلم أكتب عليه مع أن جوابه نصب عيني، وعتيد لدي لا يحول شيء بينه وبيني لأنظر هل من رجل رشيد أو أحد له في العلم قصر مشيد هلا أبدعت فيه جوابًا مسددًا، ونوعت فيه طرائق قددًا، واتخذت بذلك على دعوى العلم ساعدًا وعضدًا، وها له نحو عامين ما حلاه أحد بحرف، ولا رمقه ناظر بطرف ولا أودعه ذو ظرف بظرف، ولو شئت أنا لكتبت عليه عدة مؤلفات ولسطرت فيه خمس مصنفات، بسيط حريز، ووسيط غريز، ومختصر وجيز، ومنظومة ذات تطريز، ومقامة إنشاء كأنها ذهب إبريز انتهى كلامه.وأقول: لعل الفرق أنه سبحانه لما ذكر {أمهاتكم} في هذه الآية معطوفًا على ما تقدم في الآية السابقة وفيها تحريم الأمهات بقي الذهن مشرئبًا إلى بيان الفارق بين هذه الأمهات وتلك الأمهات فأتى سبحانه بقوله: {الْلاَّتِى أَرْضَعْنَكُمْ} بيانًا لذلك دافعًا لتوهم التكرار فكان قيد الإرضاع الواقع صلة معتنًا به أتم اعتناء، ومما يترتب على هذا الاعتناء اعتباره أينما لوحظ، وقد لوحظ في الآية خمس مرات الأولى: حين أتى به فعلًا، والثانية: حين أسند إلى الفاعل أعني ضمير النسوة، والثالثة: حين تعلق بالمفعول أعني ضمير المخاطبين، والرابعة: حين جعل جزء الجملة الواقعة صلة الموصول، والخامسة: حين جعل اللاتي صفة أمهاتكم لأن وصفيته لها باعتبار الصلة بلا شبهة فهذه خمس ملاحظات للإرضاع في هذا التركيب تشير إلى أن ما به تحصل الأمومة خمس رضعات، وهذا أحد الأسرار لاختيار هذا التركيب مع إمكان تراكيب غيره لعل بعضها أخصر منه، وكثيرًا ما وقع في القرآن تراكيب وتعبيرات يشار بها إلى أمور واقعية بينها وبين ما في تلك التعبيرات مناسبة مثل ما وقع في قوله تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الذي عَلَيْهِنَّ بالمعروف} [البقرة: 228] من الاحتباك المشير إلى ما بين الزوجين من الائتلاف، وما وقع في قوله تعالى: {أَوْ لاَ يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ} [البقرة: 282] من الإدغام في يمل المشير إلى حال الفاعل وهو الأخرس المعقود اللسان في كثير من الأقوال، وما وقع في قوله تعالى: {كُلٌّ في فَلَكٍ} [الأنبياء: 33] من عدم الاستحالة بالانعكاس المشير إلى كرية الأفلاك في رأي إلى غير ذلك مما لا يحصى كثرة.
|